تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رحم الله ( أم المؤمنين جويرية المتبتلة )


انثى برائحة الورد
09-08-2020, 01:13 PM
حديثنا اليوم سيكون عن أمٍّ أخرى من أمهات المؤمنين، أمٌّ لها قصةٌ غريبة جمعتها بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، تبدأ القصة عندما سيقت (برّة بنت الحارث) سيدة بني المصطلق أسيرةً إلى المدينةِ المنوّرة، وبني المصطلق: هي قبيلةٌ عربية تنتسب إلى بني خزاعة، فكيف تسبى بنت زعيمهم إذن؟ لو وقف الأمر عندها وحدها ربّما هان قليلًا، لكنّها لم تكن الأسيرة الوحيدة في جيشِ المسلمين، فقد سيقت مئةٌ من عوائل بني المستلق برجالها ونساءها وأبناءها إلى المدينةِ المنوّرة، ومصير مجهولٌ ينتظرهم جميعًا، أمّا زوجها مسافئ ابن صفوان فقد تضرّج بدمائه إثر ضربةٍ قاتلةٍ من سيفِ أحدِ المسلمين وانتهى أمرهُ قتيلًا، فكيف سينتهي أمر بقيّة الرجال من قومها؟ ما هو مصيرهم يا ترى الرقُّ والعبوديّة أم الموتُ قتلًا، كل شيءٍ ممكنٌ ووارد ولكن ماذا فعل هؤلاءِ الأسرى ليواجهوا مثل هذا المصير؟ برّة تتذكّر جيّدًا ما حدث، طبعًا لم تكن مسلمة في ذلك الوقت، لكنّها كانت تعرف أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يظلم ولا يبطش ولا يعتدي على أحدٍ ولكنّ ما جناه قومها كان أكبر من الحلمِ والعفوِ والمسامحة. عادت بذاكرتها قليلًا إلى الوراء وتذكّرت والدها الحارث وزوجها مسافئ وقد اجتمعا قبل أشهرٍ وخطّطا للقضاء على محمدٍ وأصحابهِ في عقر دارهم يثرب، بعد التخطيط جاء دور التنفيذ، فقد جهّز والدها جيشًا لكي يغزو يثرب بعد أن اتّفق مع قبائل عربية أخرى لتمدّه بالعدّة والعتاد، كما أنّ برّة تعرف أن عداوة أباها وزوجها لمحمّد ليست جديدة فلطالما سمعت أبيها وزوجها يتحدّثان عن محمّد بحقدٍ وكراهية عن الدينِ الجديد الذي جاء بهِ هذا الرجل، وتذكرُ أيضًا كيف ساهم قومها في قتال المسلمين في غزوةِ أحُد وكان لهم يدٌ في إلحاقِ الهزيمةِ بالمسلمين، إذن العداوة قديمة ومتجذّرة بين قومها والمسلمين ونبيّهم، ولكن أين هي من هذا العراكِ كلّه؟ على الأقل أين تتّجه عواطفها، هل تتمنّى أن يستأصل قومها شأفة المسلمين ويريحوا جزيرة العرب من هذه البدعةَ الوافدة التي يسمونها الإسلام؟ أم أنّها تتعاطف مع المسلمين لو كانوا لقومها أعداء ومقاتلين؟ في الحقيقة لم تشعر برّة شخصيًّا يومًا في الحقد على الدين الجديد وعلى رسوله محمّد ابن عبد الله، ولكن أين هي من هذا العراك؟ هذا الذي ما لم تكن قادرة على تحديده في هذه الفترة بالذّات، مشاهد مختلطة كانت تغزو عقلها وقلبها، مازالت تلوح بمخيّلتها صورة أبيها وهو يهرولُ هاربًا من المعركة ناجيًا من الأسر تاركًا ابنتهُ برّة وأخويها وباقي قومها يلاقون ذلّ الهزيمة والأسر، نظرت لعشيرتها وهم يمشون بالأسر مشية الذليلِ المكسور، شعرت بنظراتهم إليها بأنّها أسهمٌ من العار تريد أن تفتك بها، فهي ابنة الحارث السيّد الذي تركَ قومه وفرّ وتركهم يواجهون مصيرهم الأسود بعد أن كان هو سبب الحرب كلها كيف يفرّ ويجبن؟ تجاهلت برّة نظرات القوم إذ ليس عندها ما تبرّر بهِ فعلةَ أبيها. وسرحت لتتساءل بسرّها لماذا يكره أبيها وزوجها الإسلام والنبيّ محمد ابن عبد الله؟ لماذا كانا يخططان للقضاء عليه؟ كانت تظنّ أن الخوف على المنصب والجاه والمال والرغبة في المحافظة على عقائد الآباء والأجداد هو ما كان يمنع أباها وزوجها من قبول الإسلام، كانت برّة تظنّ ذلك ظنًا لكنّها الآن على يقينٍ بأنّ ظنّها في محلّه، لأنّها منذ أن سيقت أسيرة لم ترى من هؤلاء المسلمين إلاّ أحسن الأخلاق، لم يكن المسلمون يعاملون أسراهم بالجفوة والغلظة وسوء الأخلاق كما كان شائعًا في التعامل مع الأسرى آنذاك وكما كان قوم برّة يعاملون أسراهم، وكان يتطرّق إلى سمعها حديث صحابة الرسول وهم يتحدّثون فيما بينهم وهم يتواصون أحسنوا إلى الأسرى هكذا أمر رسول الله، كانوا يسهرون على راحة الأسرى وإطعامهم وحمايتهم أكثر من حرصهم على أنفسهم لأنهم وصية رسولهم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم. كانت تسمع حديثهم عن الرسول الكريم وتعجب لحبهم له أشدّ العجب، أحدهم يتمنّى أن يفديهِ بنفسه وأمواله وأولاده ما هذا الحب ولماذا؟ ربّما كانت تسأل نفسها هذا السؤال، سمعت برّة بنت الحارث بأنّ الأسرى سيعرضون على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الغد ليرى فيهم رأيه، غدًا إذن سترى عيناها محمّدًا الذي طالما سمعت عنه وتمنّت رؤيته، ولكن لم يخطر في بالها يومًا ما أنّها ستراه وهي أسيرة ذليلة يعتصرها الخوف والذعر، أسئلةٌ كثيرة كانت تشغل تفكيرها وتستولي على لبّها، ماذا سيكون حكم النبي الكريم فيها وفي قومها المأسورين وهل سيحكم عليهم بما كان جاريًا آنذاك، حين يفوز المحاربون يقتلون الرجال أو في أحسن حالٍ يسترقونهم ويجعلونهم عبيدًا تمامًا كما يسترقون النساء والأطفال، أم أنه سيكسر هذه القاعدة المألوفة ليمنّ عليها وعلى قومها بإطلاقِ سراحهم وإعادة حرّيتهم إليهم، كادت تضحك في نفسها حول خيالها الجامح نحو الحريّة فالعين بالعين والسنّ بالسّن، فإن قتل محمّد رجال قومها لا يلومه أحد فقد كانوا حريصين على قتله ولو استطاعوا أن يسبوا نساء المدينة المنوّرة وأطفالها لاتّخذوا منهم العبيد والجواري، فما الداعي لأن يعفو محمّدٌ عنهم وعن نساءهم وعن أطفالهم، مناقشةٌ منطقيّة للأمور تدور في عقل برّة لكنّ ما رأته من كرم المعاملة وحسن الأخلاق معها ومع الأسرى من قبل أصحاب النبي لم يسمح لها بالضحك من هذا الاحتمال واستبعاده، ما الذي حدث بعد ذلك مع برّة وقوم برّة؟ يروي ابن اسحاق أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وزّع الأسرى بين المسلمين على أنّهم غنائم حرب ووقعت برّة غنيمة لثابتٍ ابن قيس وسألته أن يكاتبها، وهو أن يشتري العبد نفسه من سيّدهِ مقابل مالٍ يؤدّيه إليه، طبعًا لم تكن برّة تملك شيئًا من هذا المال الذي كاتبت نفسها عليه لكنّها كانت تخطّط لشيء، أتعرفون ما هو؟ تروي أم المؤمنين عائشة أن برة بنت الحارث أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له: "يا رسول الله أنا برة بنت الحارث سيدة قومي و قد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك وقد وقعت في السهم لثابت بن قيس فكاتبته على نفسي فجئتك أستعين على مكاتبتي"، وقع كلامها هذا من النبي صلى الله عليه وسلم موقعًا سليمًا فهي سيدةً في قومها وذات حسب ونسب وقعت في الأسر وتريد منه وهو زعيم جيش العدو أن يساعدها ليفك أسرها، هذا منطقٌ عجيب لكنه منطق عظيم، منطق يعكس بوضوح وجلاء النظرة السامية والراقية التي كان أعداء الإسلام وأعداء النبي صلى الله عليه وسلم يكنونها تجاهه. كم تشبه هذه النظرة قول قريش عندما يطل عليهم محمد بن عبدالله قبل البعثة والنبوة فيقولون جاء محمد جاء الصادق الأمين، كم تشبه جواب قريش أيضًا للنبي عندما أمره الله تعالى بالجهر بدعوة الإسلام فسألهم قائلًا: «لو أني أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقين، فقالوا: نعم ما جربنا عليك كذبًا قط» (صحيح البخاري[4770]). هاهو التاريخ يعيد نفسه على يد برّة بنت رئيس جيش المشركين تريد من رئيس جيش المسلمين أن يساعدها لتفكّ نفسها من الأسر، لو لم تكن تراه رمزًا للسلام والمحبة والعفو والجود والنبل والشهامة لما طلبت منه هذا الطلب، بماذا أجابها النبي عليه الصلاة والسلام، الأرجح حسب مجريات الأحداث التي وقعت فيما بعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عز عليه ما آل إليه حال بني المصطلق، ففكر بطريقة ترضي أصحابه الذين ينتظرون توزيع الغنائم كما هي العادة في الحروب بما في ذلك الأسرى والنساء، وفي نفس الوقت يجعلهم يتنازلون عن حقهم بكامل رغبتهم وإرادتهم فيعيدون إلى بني المصطلق حريتهم وكرامتهم، الأمر الذي قد يلفت نظرهم للإسلام ويرغبهم بالدخول فيه. عرض النبي صلى الله عليه وسلم على برة حلًا عظيمًا لا يخرج إلا من رجلٍ عظيم، عرض عليها أن يقضي عنها مال مكاتبتها وأن يتزوجها، تذكرت عند هذه اللحظة رؤية رأتها منذ خمس سنوات عندما قدم محمد بن عبدالله إلى يثرب، رأت قمرًا يمشي من يثرب يقع في حجرها، وهل غير النبي محمد صلى الله عليه وسلم يستحق أن يكون قمرًا، ولكن الزواج يحتاج إلى مهر وما هو مهرها؟ كان صداقها إعتاق جميع من استرق من قومها رجالًا ونساءً، يا له من صداق لم يقع من قبل ولا من بعد لامرأةٍ غيرها، يروي الرواة أن بعض نساء النبي عليه الصلاة والسلام افتخرن على برة بنت الحارث بأنهن حرائر وأنه ما جرى عليهن رقٌ يومًا من الأيام، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها وهو يطيب خاطرها «أو لم أعظم صداقك» (مجمع الزائد[9/253]). كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من برة في السنة الخامسة للهجرة كان عمرها عشرين عامًا وأسماها جويرية كان اسمها برة وصار اسمها جويرية، لأن النبي كره أن يقال خرج من عند برة ودخل عليها فقد كان عليه السلام لا يحب اسم برة تعرفون لماذا؟ لأنه يعتبر اسم برة فيه تزكية النفس على الله، والله تعالى يقول {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. ثمة سؤال هنا، كيف أتم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصداق؟ مع أنه وزع على أصحابه جميع الغنائم بما فيها الأسرى والسبايا، الواقع أن المسلمين سمعوا نبيهم الحبيب أعتق برة وتزوجها فعز عليهم أن يكون قوم زوجة نبيهم عبيدًا أرقاء، لم سيسببه هذا من جرحٍ لكرامتها وخدشٍ لعزتها فأقبلوا على من بأيديهم من أسرى بني المصطلق وأرسلوهم أحرارًا وهم يقولون أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة في معرض امتداحها لجويرية: "ما أعلم امرأةً أعظم منها بركةً على قومها"، هذه إحدى الروايات الواردة في كتب السيرة النبوية عن خبر السيدة جويرية، وهناك روايات أخرى لا مجال لتناولها الآن، هذه الروايات وإن اختلفت في مقدمتها عن هذه الرواية إلا أنها تتفق معها في النتيجة والخاتمة، وهي إطلاق المسلمين لسراح جميع الأسرى إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم وإكرامًا لزوجته التي أصبح اسمها أم المؤمنين جويرية بنت الحارث وهم يقولون أصهار رسول الله أفلا نكرمهم! ورد في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام لما تزوج جويرية قدم أبوها وهو لا يعلم بعد بزواجها، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن ابنتي لا يفدى مثلها فخل سبيلها، فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت، قال: بلى، فأتاها أبوها يسألها فقالت: اخترت الله ورسوله» (تهذيب التهذيب [12/407])، على كل حال فإن الذي تؤكد عليه جميع الروايات هو عودة بني المصطلق لأهلهم أحرارًا وقد أكرمهم الله بالإسلام بعدما رأوه فيه من تعاليم سامية وأخلاق عظيمة لم تعهدها الجزيرة العربية قبل هذا. يحلو لنا قبل أن نتصور السيدة جويرية أم المؤمنين وهي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن نعلق على أمرين: الأول: هو مباغتة النبي صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق في ديارهم، إذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رأس جيشٍ صغير لقتالهم لما بلغه خبر استعداد بني المصطلق لقتال المسلمين في المدينة، طبعًا لم يعلم بنو المصطلق بمسير النبي إليهم وفوجئوا به وهو يهاجمهم في عقر دارهم، والأمر الثاني: الذي سنتباحث فيه هو مسألة الأسرى الذين يسترقون ليصبحوا عبيدًا، أقول هناك اليوم من يصطاد بالماء العكر فيتهم الإسلام بأنه دين الإرهاب والاستعباد ولكن هؤلاء المتهمين كالنعامة تدفن رأسها بالمال فلا ترى الصياد فهل يعني أن الصياد لا يراها؟ وكذلك هؤلاء أغمضوا أعينهم عن رؤية الحق فهل يتغير الحق وينقلب إلى باطل بسبب تعاميهم عن رؤيته؟ أبدًا الحق يظل حقًا لا يتغير مهما قيل فيه ومهما افتري عليه. والحق أن بني المصطلق كانوا يبيتون الغدر ضد الإسلام كما رأينا ويعدون العدة للقضاء عليه فهل من العدالة أن يغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف عنهم و يتسامى عن قتالهم؟ وإذا فعل هذا ماذا ستكون النتيجة؟ ببساطة ستكون النتيجة أن يغزوا بنوا المصطلق المسلمين في عقر دارهم فيقتلوهم ويشردوهم وعندها لا تنفع حسرة ولا تفيد ندامة. من سمات القائد الحكيم أن يتدارك المصيبة قبل وقوعها ويرد العدوان قبل حصوله وخاصةً إذا تأكد من مؤشرات حصوله، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يغزو بني المصطلق إلا بعد أن تأكد من خلال عيونه الذين كان عليه الصلاة والسلام يبثهم، بأنهم كانوا جادين في حربهم وعدوانهم، هل يسمى هذا اعتداءً أو إرهابًا؟ طبعًا لا فجزاء سيئةٍ سيئة بمثلها. أما بالنسبة لمسألة الأسرى الذين يسترقون ليصبحوا عبيدًا فإن هناك اليوم من ينظر لمسألة العبودية والرقيق بمنظار القرن العشرين والواحد والعشرين حيث تحرم الآن القوانين والعهود الدولية الاسترقاق، وبناءٍ على هذا التحريم للاسترقاق يتهمون الإسلام أنه أجاز هذا النظام اللاإنساني وسكت عنه بل ومارسه أيضًا، هؤلاء ينسون أو يتناسون أن عليهم عند الحديث عن الرقيق في الإسلام أن يرجعوا إلى ما كانت عليه الدنيا قبل ألفٍ و خمسمائة سنةٍ تقريبًا، كان الاسترقاق في ذلك الوقت والاستعباد سائدًا في العالم كله كنتيجة حتمية للحروب ومخلفات الحروب وكان الاقتصاد آنذاك يعتمد في جزءٍ كبير منه على بيع الرقيق واستخدامهم، و قبل أن يأتي الإسلام كان الرقيق أمرًا شائعًا اعتياديًا ولم يكن للعبيد قبل الإسلام أي حقٍ من الحقوق المدنية، كان العبد بيد سيده كأنه آلة من الآلات التي يمتلكها وإذا حصل أن امتلك هذا العبد مالاً بهبةٍ أوهديةٍ أوعمل فإن هذا المال ينتقل من يده إلى يد سيده المالك بشكلٍ تلقائي. أقول إذن أسرى الحرب هم الرافد الأساسي لمسألة الرقيق، وعندما يتحدث القرآن الكريم عن الأسرى يخير المسلمين بشأنهم بين أمرين فيقول: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد:4]، المن هو إطلاق سراح الأسير بدون عوض والفداء إطلاق سراحه مقابل عوض مادي، المتأمل في هذه الآية الكريمة لا يجد فيها حضًا على استرقاق الأسرى بل يجد فيها حضًا على إطلاق سراحهم، واسترقاق المسلمين للأسرى كان يجري على مبدأ المعاملة بالمثل لم إعتاده العالم آنذاك وهو ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم القوانين والعهود الدولية السارية. ليس من المعقول أن يلغي النبي استرقاق أسرى أعداءه في الوقت الذي يسترق فيه الأعداء أسرى المسلمين ولذلك نرى النبي عليه الصلاة والسلام يطبق هذا القانون ثم يطبق بعده قاعدة إطلاق الأسرى مننًا أو فداءً أو غير ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة أوالحكمة، خلو آية الأسرى من الحض على الاسترقاق دليل واضح وصريح على أن الإسلام يسعى لتحرير العبيد وإلغاء الرق، لذلك نرى الآية تقول {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} لم نراها تذكر الاسترقاق، و لذلك وضع الإسلام أكثر من طريقة وأكثر من مناسبة حث فيها على فك الرقاب أي على إعتاق العبيد مثل كفارة كثير من الذنوب،عندنا مثلًا كفارة اليمين والظهار وكفارة الإفطار المتعمد في رمضان وكفارة القتل الخطأ. جعل الإسلام إعتاق العبيد في قمة هذه المكفرات كما وضع أنظمةً تؤدي إلى إلغاء الاسترقاق ومن هذه الأنظمة المكاتبة أي أن يشتري العبد نفسه من سيده ومنها أيضًا نظام أم الولد أي أن يحرر الولد أمه من الرق إذا حملت تلك الجارية من سيدها وولدت له فيولد الولد حرًا طبعًا ولكنه يحرر أمه من الرق بمجرد موت سيدها. إضافة إلى أن الإسلام حث دائمًا على إعتاق الرقيق بشكل عام مسلمين كانوا أو غير مسلمين وجعل هذا الإعتاق من أفضل القربات إلى الله تعالى، يقول تعالى في هذا {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} وفك رقبة أي إعتاق تلك الرقبة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبةً أعتق الله بكل عضوٍ منها عضوٌ من أعضائه من النار» (صحيح مسلم[1509]). نقول أليس هذا سعيًا بالطرق العلمية إلى تحرير الرقيق وإلغاء الرق، ولذلك نقول إن ما ذهبت إليه القوانين والعهود الدولية الحديثة من تحريم الاسترقاق وإلغاء العبودية يتفق مع مبادئ الإسلام ومع مقاصده الأساسية ولا يتناقض معها، بل وأكثر من هذا أقول إن الإسلام بموقفه من الرق و بدعوته المتكررة لإعتاق الرقيق هو الذي مهد الطريق أمام المنظمات الدولية المعاصرة لكي تتمكن من إلغاء العبودية بين الناس ولولا هدي الإسلام وجهود رجاله المخلصين عبر مئات السنين لم يكن لنا أن نعرف كيف سيكون شكل وشأن العالم اليوم. نعود إلى أم المؤمنين جويرية بنت الحارث وهي في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وتحت جنحه وعصمته خمس سنوات؛ عاشتها أم المؤمنين جويرية مع الزوج الكريم والرسول النبي وهي تستمتع بصحبته وتنهل من علمه قدر ما تستطيع، كان جل اهتمامها منصبًا على عبادة الله عز وجل فكانت تقطع نهارها صائمةً وذاكرةً لله تعالى وتقطع ليلها مصلية، كانت تستأنس بالله تعالى وتستغني به عن كل أنيس، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أحاديث على الرغم من أنها عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرابة الثلاثين سنة، ويمكن أن نقول قلة رواية نساء النبي صلى الله عليه وسلم للأحاديث باستثناء طبعًا أم المؤمنين عائشة التي روت أكثر من ألفي حديث، نقول هذا أمرٌ مستغرب ولكن إذا ما عدنا إلى طبائع الناس ورأينا اختلاف اهتماماتهم وتنوع إمكانياتهم أمكننا أن ندرك سبب قلة رواية الكثير من صحابة النبي وصحابياته بما فيهن نسائه عليه الصلاة والسلام، بينما يتفرد البعض الآخر وهم قليل برواية عدد كبير منها، أضف إلى ذلك أنه ليس كل شخصٍ هو صالحٍ تقيٍ هو بالضرورة عالم أو فقيه أو متحدث فللعلم أهله الذين يمتازون بصفات قد لا يمتلكها الكثيرون غيرهم من أهل التقوى والصلاح. يحلو لنا هنا أن نقتبس من مرويات السيدة جويرية هذا الحديث يروي الإمام مسلم عن أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها أنها قالت: «أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسبح غدوةً ثم انطلق لحاجته ثم رجع قريبًا من نصف النهار وأنا أسبح، فقال: أما زلت قاعدة، قلت: نعم، فقال: ألا أعلمك كلمات لو عدلت بهن وزنتهن -أي تساوت معهن- سبحان الله عدد خلقه ثلاثة مرات، سبحان الله زنة عرشه ثلاثة مرات، سبحان الله رضاء نفسه ثلاث مرات، سبحان الله مداد كلماته ثلاث مرات» (صحيح ابن حبان[828])، هذا الحديث الشريف يدلنا على إرشادٍ هام هو ضرورة عدم التشدد ولو بالعبادة، هذا ما جادت به علينا روحانيات أم المؤمنين جويرية بنت الحارث ومن بركتها. لفت النبي صلى الله عليه وسلم نظر أمته إلى التوازن والوسطية في جميع الأمور بما فيها الأمور العبادية لتكون شطرًا أساسيًا في الحياة كلها، توفيت السيدة جويرية سنة خمسين هجرية وعمرها خمسةٌ وستون عامًا، رحم الله أم المؤمنين جويرية المتبتلة العابدة الصائمة القوامة فسلامٌ لك يا أمنا سلامٌ لك يا زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنك وأرضاك، ولك منا تحيةٌ عطرةٌ تبقى إلى يوم الدين.

نهيان
09-08-2020, 09:34 PM
جزاك الله بخير الجزاء والجنه
بارك الله فيك ونفع بك
وجعله في موازين حسناتك
اضعاف مضاعفه لاتعد ولاتحصى

انثى برائحة الورد
09-09-2020, 01:31 PM
يتسرب الفرح الى قلبي
وتطمئن نفسي حينما أراكم هنا
فلكم ألق خاص يبهج النفس
فـ النور من بين يديكم يسعى

امير السلام
09-09-2020, 06:33 PM
جزاك الله كل الخير

منصور
09-09-2020, 07:41 PM
بارك الله فيك
وجعل ما تقدمه من موضوعات
في ميزان حسناتك
ويجمعنا بك والمسلمين
في جنات النعيم
دمت بخير

انثى برائحة الورد
09-10-2020, 02:07 PM
كنتم انتم هنا
فزدتم كلماتي نقاءا وجمالا

شايان
09-11-2020, 04:47 PM
بارك الله في رقي الموضوع
وجعلها في ميزان اجرك وحسناتك

ليالي الحنين
09-12-2020, 10:32 PM
جزاك الله خير واثابك بالجنه
بورك فيك ونفع بك
وجعله في ميزان حسناتك

انثى برائحة الورد
09-14-2020, 09:46 PM
يسعدني ويشرفني مرووووووركم العطر
لكم مني اجمل باقات الشكر والتقدير