عطر الزنبق
12-11-2023, 03:46 PM
الصداقة بين الهشاشة والبشاشة .
(د.عبدالرحمن بن سليمان الدايل ).
كم من صديق انقلب على صديقه وتحوَّل ما بينهما من صداقة إلى قطيعة وخصام؟! تعجُّب يحمل معنى سؤال تجيب عليه جلسات الأصدقاء وحوارات السمر بينهم، فما تكاد تخلو جلسة من حديث عن الصداقة أو ينفض لقاء بين أصدقاء..
دون أن يتطرق إلى حالات نكران الجميل بين الخلان والأصحاب، فقد صار الصديق الحق - في مواقف كثيرة - ضرباً من الخيال بعد أن ترددت وتأكدت في علاقاتنا الاجتماعية مقولة إنه من أحد المستحيلات.
ولم تأت هذه المقولة عن فراغ، بل لابد أن قائلها قد خبر الحياة وذاق من حلوها ومرها، وكان الجانب الأكبر في مرارتها على يد أصدقائه أو من حسبهم وظنهم أصدقاء، ولم يكن لهذه الجملة أو المقولة أن تحفظ وتتردد على المسامع ويتناقلها الناس في كتاباتهم وأقوالهم، ولم يكن لتكتب لها الاستمرارية إذا لم يكن فيها جانب من الحقيقة أو نوع من الحكمة أو الاتعاظ والنصيحة.
وربما تثير هذه الكلمات بعض من يضعون فوق أعينهم نظارات من التفاؤل، غير أنهم لو انتظروا وتريثوا وراجعوا أنفسهم لاعترفوا بالعجب العجاب، وكالوا النصح والإرشاد لأبنائهم ولمن يهمهم أمرهم قائلين ومرددين قول الشاعر:
اختر قرينك واصطفيه تفاخراً
إن القرين مع المقارن يُصحَبُ
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه
يُعدي كما يُعدي الصحيحَ الأجربُ
ولعل هذا قمة الاعتراف بقيمة الصديق وأهميته، وإن كانت لا تحمل في ألفاظها ما يشير إلى النكران أو الجحود بين الأصدقاء، إلا أنها تشير ضمناً إلى المفارقات في أخلاق الأصدقاء.
فهناك الصديق الوفي، وهناك صديق المصلحة والحاجة الذي يجعل للصداقة مآربها الشخصية التي يجنيها ثم ينقضُّ بعد جنيها على كل معاني الصداقة، فلا يبقي لها أثراً بل يجعلها في تعداد الصداقات المؤقتة التي مهما امتد زمنها أو طال أمدها فهي مؤقتة زائلة بزوال المصالح أو بالاستغناء عن الصديق إذا حان الوقت في نظر قرينه ليدخل الصداقة حينها في نطاق من قال فيهم الشاعر:
والصحب حولك يظهرون بأنهم
الأوفياء لأجل نيل مآدبِ
وإذا اضطُررت إليهمو أو ضاقت
الأيام مالك في الورى من صاحبِ
إن مثل هذه الصداقات الهشة والتي لم تكن تبدو في ملامحها أو مظاهرها أنها بتلك الهشاشة تجعلنا في حوارات ضرورية نستهدف منها تشخيص الأسباب التي تقود الصداقات المتينة إلى هذه المصائر المحزنة التي ازدحمت بها حياتنا الاجتماعية، وكثر الحديث عنها بصورة متكررة لا تسمح لنا بأن نتذكر تلك الصور المشرقة في عالم الصداقة والتي كانت ترتبط في ثقافتنا بما رسخ في أذهاننا من أقوال يأتي في قمتها (رُب أخٍ لك لم تلده أمك).
لقد تاهت هذه الصور المشرقة وضاعت في زحمة الحياة، وفي دهاليز الأنانية المفرطة وأضحت الصداقة في أول معانيها في واقعنا تقوم على المصلحة الذاتية الشخصية، فيقيس الصديق صديقه بميزان المصالح، فإن رجحت كفته بمعايير المصلحة فهو صديق، وإلا تحولت تلك الصداقة عنده إلى مضيعة للوقت أو قضاء العمر فيما لا يفيد، ولا طائل من ورائه طالما قد استنفذ حاجاته وقضى من صديقه مصالحه التي كانت هي جسر المودة بينهما، وعلامة الإخلاص في مناخ صداقتهما.
وهيهات لمثل تلك الصداقات أن تستمر أو يستقيم حالها وبخاصة إذا كان عنصر المصلحة الذي تقوم عليه لا يعترف به إلا أحد طرفيها فتجده ساعياً بجهده وطاقته ما وسعه السعي لامتصاص تلك المصالح الشخصية الدنيوية، ويكرس في ذلك طاقات صديقه ويستثير لديه كل معاني الصداقة والوفاء، وأخلاق التضحية والنبل والإخلاص ويبدي من قلبه هو بشاشة الوجه وحلاوة اللسان وعذب الحديث ويسترجع أدبيات الصداقة وما نالته في أدبنا العربي من أبلغ الشعر وأرقى النثر وأعذب الأسلوب، ويظن الأصدقاء بذلك أنهم قد أقاموا للصداقة نماذج وصروحاً لكنها لا تلبث أن تهوي مع مصالح الحياة المتغيرة من حولهم، فالمصالح تتكاثر وتنمو وتتزايد المؤثرات الفاعلة في كميتها ونوعيتها وفي توقيتها وفيما تلقيه من أعباء على حياة البشر، وهنا تتأثر الصداقات التي ينجرف الهش منها مع سيل المصلحة الذي لا يبقي ولا يذر، فيهدم صروح الصداقة التي اختلَّت أسس بنائها، فقامت على أساس واحد وضعيف من المصلحة الشخصية عند أحد الطرفين بعيداً عن معاني الصداقة الحقيقية التي ترتكز على أسس راسخة من الثقة المتبادلة والعلاقات الحميمة والنصح المتبادل، وقبل ذلك وبعده تستند إلى أساس متين وقوي يستمد كل معانيه وكافة التعاملات في ميادينه مما بشر به سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- أولئك السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وجاء من بينهم (.... ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) إن مثل تلك الصداقات هي التي تدوم وتثمر وتقوى وتزدهر فلتكن هي سبيلنا ومقياسنا لإقامة الصداقات حتى لا نضع أنفسنا في دائرة النادمين الذين يرددون بعد فوات الأوان ومرور الأيام وانقضاء الأعمار قول الشاعر:
جرّب صديقك قبل أن تحتاجه
إن الصديق يكون بعد تجاربٍ
أما صداقات اللسان فإنها
مثل السراب ومثل حلم كاذبٍ.
(د.عبدالرحمن بن سليمان الدايل ).
كم من صديق انقلب على صديقه وتحوَّل ما بينهما من صداقة إلى قطيعة وخصام؟! تعجُّب يحمل معنى سؤال تجيب عليه جلسات الأصدقاء وحوارات السمر بينهم، فما تكاد تخلو جلسة من حديث عن الصداقة أو ينفض لقاء بين أصدقاء..
دون أن يتطرق إلى حالات نكران الجميل بين الخلان والأصحاب، فقد صار الصديق الحق - في مواقف كثيرة - ضرباً من الخيال بعد أن ترددت وتأكدت في علاقاتنا الاجتماعية مقولة إنه من أحد المستحيلات.
ولم تأت هذه المقولة عن فراغ، بل لابد أن قائلها قد خبر الحياة وذاق من حلوها ومرها، وكان الجانب الأكبر في مرارتها على يد أصدقائه أو من حسبهم وظنهم أصدقاء، ولم يكن لهذه الجملة أو المقولة أن تحفظ وتتردد على المسامع ويتناقلها الناس في كتاباتهم وأقوالهم، ولم يكن لتكتب لها الاستمرارية إذا لم يكن فيها جانب من الحقيقة أو نوع من الحكمة أو الاتعاظ والنصيحة.
وربما تثير هذه الكلمات بعض من يضعون فوق أعينهم نظارات من التفاؤل، غير أنهم لو انتظروا وتريثوا وراجعوا أنفسهم لاعترفوا بالعجب العجاب، وكالوا النصح والإرشاد لأبنائهم ولمن يهمهم أمرهم قائلين ومرددين قول الشاعر:
اختر قرينك واصطفيه تفاخراً
إن القرين مع المقارن يُصحَبُ
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه
يُعدي كما يُعدي الصحيحَ الأجربُ
ولعل هذا قمة الاعتراف بقيمة الصديق وأهميته، وإن كانت لا تحمل في ألفاظها ما يشير إلى النكران أو الجحود بين الأصدقاء، إلا أنها تشير ضمناً إلى المفارقات في أخلاق الأصدقاء.
فهناك الصديق الوفي، وهناك صديق المصلحة والحاجة الذي يجعل للصداقة مآربها الشخصية التي يجنيها ثم ينقضُّ بعد جنيها على كل معاني الصداقة، فلا يبقي لها أثراً بل يجعلها في تعداد الصداقات المؤقتة التي مهما امتد زمنها أو طال أمدها فهي مؤقتة زائلة بزوال المصالح أو بالاستغناء عن الصديق إذا حان الوقت في نظر قرينه ليدخل الصداقة حينها في نطاق من قال فيهم الشاعر:
والصحب حولك يظهرون بأنهم
الأوفياء لأجل نيل مآدبِ
وإذا اضطُررت إليهمو أو ضاقت
الأيام مالك في الورى من صاحبِ
إن مثل هذه الصداقات الهشة والتي لم تكن تبدو في ملامحها أو مظاهرها أنها بتلك الهشاشة تجعلنا في حوارات ضرورية نستهدف منها تشخيص الأسباب التي تقود الصداقات المتينة إلى هذه المصائر المحزنة التي ازدحمت بها حياتنا الاجتماعية، وكثر الحديث عنها بصورة متكررة لا تسمح لنا بأن نتذكر تلك الصور المشرقة في عالم الصداقة والتي كانت ترتبط في ثقافتنا بما رسخ في أذهاننا من أقوال يأتي في قمتها (رُب أخٍ لك لم تلده أمك).
لقد تاهت هذه الصور المشرقة وضاعت في زحمة الحياة، وفي دهاليز الأنانية المفرطة وأضحت الصداقة في أول معانيها في واقعنا تقوم على المصلحة الذاتية الشخصية، فيقيس الصديق صديقه بميزان المصالح، فإن رجحت كفته بمعايير المصلحة فهو صديق، وإلا تحولت تلك الصداقة عنده إلى مضيعة للوقت أو قضاء العمر فيما لا يفيد، ولا طائل من ورائه طالما قد استنفذ حاجاته وقضى من صديقه مصالحه التي كانت هي جسر المودة بينهما، وعلامة الإخلاص في مناخ صداقتهما.
وهيهات لمثل تلك الصداقات أن تستمر أو يستقيم حالها وبخاصة إذا كان عنصر المصلحة الذي تقوم عليه لا يعترف به إلا أحد طرفيها فتجده ساعياً بجهده وطاقته ما وسعه السعي لامتصاص تلك المصالح الشخصية الدنيوية، ويكرس في ذلك طاقات صديقه ويستثير لديه كل معاني الصداقة والوفاء، وأخلاق التضحية والنبل والإخلاص ويبدي من قلبه هو بشاشة الوجه وحلاوة اللسان وعذب الحديث ويسترجع أدبيات الصداقة وما نالته في أدبنا العربي من أبلغ الشعر وأرقى النثر وأعذب الأسلوب، ويظن الأصدقاء بذلك أنهم قد أقاموا للصداقة نماذج وصروحاً لكنها لا تلبث أن تهوي مع مصالح الحياة المتغيرة من حولهم، فالمصالح تتكاثر وتنمو وتتزايد المؤثرات الفاعلة في كميتها ونوعيتها وفي توقيتها وفيما تلقيه من أعباء على حياة البشر، وهنا تتأثر الصداقات التي ينجرف الهش منها مع سيل المصلحة الذي لا يبقي ولا يذر، فيهدم صروح الصداقة التي اختلَّت أسس بنائها، فقامت على أساس واحد وضعيف من المصلحة الشخصية عند أحد الطرفين بعيداً عن معاني الصداقة الحقيقية التي ترتكز على أسس راسخة من الثقة المتبادلة والعلاقات الحميمة والنصح المتبادل، وقبل ذلك وبعده تستند إلى أساس متين وقوي يستمد كل معانيه وكافة التعاملات في ميادينه مما بشر به سيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم- أولئك السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وجاء من بينهم (.... ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) إن مثل تلك الصداقات هي التي تدوم وتثمر وتقوى وتزدهر فلتكن هي سبيلنا ومقياسنا لإقامة الصداقات حتى لا نضع أنفسنا في دائرة النادمين الذين يرددون بعد فوات الأوان ومرور الأيام وانقضاء الأعمار قول الشاعر:
جرّب صديقك قبل أن تحتاجه
إن الصديق يكون بعد تجاربٍ
أما صداقات اللسان فإنها
مثل السراب ومثل حلم كاذبٍ.