الموضوع: محمود درويش
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-07-2020, 12:46 AM   #3


الصورة الرمزية شايان
شايان متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1716
 تاريخ التسجيل :  08-02-2020
 أخر زيارة : اليوم (10:49 AM)
 المشاركات : 160,375 [ + ]
 التقييم :  180205
 الدولهـ
Palestine
 الجنس ~
Female
 SMS ~



لوني المفضل : Blue
افتراضي



لاعب النرد وهواياته



كان درويش منشغلا بالقراءة والكتابة جلّ وقته. يتحدث العبرية والإنجليزية والفرنسية. يحب سماع الموسيقى الكلاسيكية لكبار الموسيقيين مثل بيتهوفن وتشايكوفسكي، وغالبا ما يسمع الموسيقى أثناء الكتابة، ولديه مجموعة كبيرة من الأشرطة والأقراص الموسيقية. كان يحب سماع عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، ويتابع المسلسلات التاريخية. أما تسليته فكانت في لعب النرد "طاولة الزهر" التي ينهمك في أجوائها، يصرخ أحيانا، ويغتاظ أحيانا أخرى مثل أي طفل، أما مشاهدته للتلفزيون، فقد كان مغرما بالدراما، وخاصة في رمضان.



عالم القهوة
يعترف أصدقاء درويش المقربون بأنه كان يصنع لهم القهوة بنفسه، ويتفنن في ذلك، ولا يحب أن يصنعها أو يقدمها لهم أحد غيره. كان يصر على أن يصنع القهوة بيديه، ويخدم زواره. أثناء الحرب في بيروت عاش في شقة تفصل واجهة زجاجية فيها بين غرفة النوم والمطبخ وهي معرضة للقناصة، وعندما يريد أن يذهب ليصنع فنجان قهوة كان يتردد في المغامرة بروحه من أجل المرور إلى المطبخ وصنعها، يقول كل ذلك في كتابه (ذاكرة للنسيان):
"أريد رائحة القهوة. لأتماسك، لأقف على قدميّ. كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لنشر رائحة البارود ومذاق العدم! صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة.. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر.
أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة، فالقهوة لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت.
في وسع الغزاة أن يسلطوا البحر والجو والبر عليّ، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتلعوا مني رائحة القهوة. سأصنع قهوتي الآن. سأشرب القهوة الآن. سأمتلئ برائحة القهوة الآن، لأعيش يوما آخر، أو أموت محاطا برائحة القهوة.
ملعقة واحدة من البن المكهرب بالهال تُرسى، ببطء، على تجاعيد الماء الساخن، تحركها تحريكا بطيئا بالملعقة، بشكل دائري في البداية، ثم من فوق إلى تحت. تضيف إليها الملعقة الثانية، تحركها من فوق إلى تحت، ثم تحركها تحريكا دائريا من الشمال إلى اليمين، ثم تسكب عليها الملعقة الثالثة. بين الملعقة والأخرى أبعد الإناء عن النار ثم أعده إلى النار. بعد ذلك "لَقِّم" القهوة، أي املأ الملعقة بالبن الذائب وارفعها إلى أعلى، ثم أعدها عدة مرات إلى أسفل، إلى أن يعيد الماء غليانه وتبقى كتلة من البن ذي اللون الأشقر على سطح الماء، تتموج وتتأهب للغرق. لا تدعها تغرق. أطفئ النار ولا تكترث بالصواريخ. خذ القهوة إلى الممر الضيق. صبها بحنان وافتنان في فنجان أبيض، فالفناجين داكنة اللون تفسد حرية القهوة. راقب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة. أشعل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان.
ها أنذا أولد. امتلأت عروقي بمخدرها المنبه. أتساءل: كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟ كم قال لي أطباء القلب وهم يدخنون: لا تدخن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة ولا يكتب.
أعرف قهوتي، وقهوة أمي، وقهوة أصدقائي. أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها. لا قهوة تشبه قهوة أخرى. ودفاعي عن القهوة هو دفاع عن خصوصية الفارق. ليس هنالك مذاق اسمه مذاق القهوة. لكل شخص قهوته الخاصة، الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته. ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة. ذلك يعني أن مطبخ السيدة ليس مرتبا. وثمة قهوة لها مذاق عصير الخروب. ذلك يعني أن صاحب البيت بخيل. وثمة قهوة لها رائحة العطر. ذلك يعني أن السيدة شديدة الاهتمام بظاهر الأشياء. وثمة قهوة لها ملمس الطحلب في الفم. ذلك يعني أن صاحبها يساري طفولي. وثمة قهوة لها مذاق القِدم من فرط ما تألب البن في الماء الساخن. ذلك يعني أن صاحبها يميني متطرف. وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغي. ذلك يعني أن السيدة محدثة النعمة.
لا قهوة تشبه قهوة أخرى. لكل بيت قهوته، ولكل يد قهوتها، لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى. وأنا أعرف القهوة من بعيد: تسير في خط مستقيم، في البداية، ثم تتعرج وتتلوى وتتأوّد وتتأوه وتلتف على سفوح ومنحدرات. رائحة القهوة تتحدر من سلالة المكان الأول. هي رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود. القهوة مكان. القهوة مسام تسرب الداخل إلى الخارج، وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها هي رائحة القهوة. هي ضد الفطام.. القهوة جغرافيا.
في السجن لم أتكيف أبدا مع غياب القهوة الصباحية. ما أشد أنانيتي! لقد حرمت زميلا في السجن من نصف فنجان من القهوة، ما دفع الأقدار إلى معاقبتي، بعد أسبوع، يوم جاءت أمي لزيارتي ومعها إبريق من القهوة، دلقه الحارس على العشب".
كان محمود طباخا ماهرا، يتقن ثلاث أكلات ويتفنن في تقديمها؛ وهي الملوخية والفاصولياء البيضاء والبامياء. وكان يسهب في وصف طريقته للطبخ، وكيف يقوم بانتقاء اللحمة ونوعها، ونوعية البهارات التي يستخدمها، وتفاصيل الملح والثوم وغيرها. أما الوجبة التي كان يعشقها، ويختارها إذا ما عزمه أحد وخيّره بنوعية الطعام فهي "المنسف" التي يعتبرها وجبة لذيذة.

الاقتراب من عالم درويش
كان محمود محبا صادقا وودودا لأصدقائه وللناس بشكل عام، وهو متواضع جدا، وخجول لا يحب اللقاءات الاجتماعية التي يزيد فيها الحضور عن ستة أشخاص. كان معتدلا في حياته، وفي طعامه وشرابه ونقاشاته، ولم يكن متطرفا برأيه، هو متسامح جدا، ولم تكن لديه عداوات مع أحد، ونادرا ما يذم أحدا من الشعراء أو غيرهم، كان كريما وغالبا ما "يعزم" أصدقاءه.
ولم يكن يستطيع الذهاب إلى الأحياء الشعبية أو التجول في الشوارع مثل عامة الناس لكثرة ما يصادف من المعجبين والإحراجات. قام بتوزيع جزء كبير من مكتبته على بعض أصدقائه، وكأنه لم يرغب في إبقاء غير مئة كتاب مثلا ليحتفظ بها وتكون في متناول يده. استقبله عدد من الملوك والرؤساء مثل ملكة هولندا، وملك المغرب، ورئيس وزراء فرنسا والرئيس التونسي وغيرهم.
لعل أكثر ما يثير الإعجاب بشخصيته سرعة البديهة، وخفة الظل، وذلك التهذيب العالي في الحديث، واللباقة في التعاطي مع الآخرين، واحتفاله بتجارب الآخرين، لا سيما الشعراء الشباب. وكان يفرح من قلبه عند اكتشافه لشاعر متميز، ولا يتوانى عن إبداء إعجابه بنص جميل بدون تحفظ،. وكان مستمعاً جيداً يتابع محدثه باهتمام وفضول، ولا يميل إلى التنظير، ولا يحب دور الأستاذ الذي يتوقعه منه البعض.. يسمع جيدا ويناقش.. يقرأ الصحافة ويقرأ الكتب التي تهدى إليه، ويعبر عن رأيه فيها.
عام 1997 شارك للمرة الأولى في مهرجان جرش وافتتح المسرح الشمالي الذي كان مغلقا لألفي عام فيه لأول مرة، حيث قرأ لمحبيه ومتابعيه أشعاره بمرافقة عازف العود سمير جبران، شارك في مهرجان جرش مرات عديدة منها أمسيته الشهيرة في قصر الثقافة، قال لجمهوره حينما صعد المنبر: سأقرأ بعضا مما تحبون، وبعضا مما أحب. وقرأ قصائد قليلة من قديمه، ثم وبلمسة ساحر أو مثل قائد أوركسترا متمرس بدأ بقراءة اختياراته هو، وهكذا سحب الجمهور إلى الشعر الخالص، إذ قرأ نصوصا عالية تقبلها الجمهور بكل سلاسة.





توقيع كتبه

نشط درويش في السنوات الأخيرة بإقامة حفل توقيع لإصداراته الجديدة في مركز خليل السكاكيني في رام الله. وفي عمان اختار مسرح البلد في قاع المدينة. كان حفل التوقيع الأول في كانون الأول (ديسمبر) 2005، جاءه حضور كبير تجاوز الـ 1200 شخص، معظمهم من الشباب، ومن طلبة الجامعات والعاملين في مختلف القطاعات، وأتى البعض من سورية، وفلسطين 48 وكانت فرصة للقاء الناس. كان درويش سعيدا يستوقف من يريد التوقيع أحيانا ويسأله عن اسمه ومن أين أتى، ويتعرف إلى البعض أو أهاليهم، أقام حفل توقيع "في حضرة الغياب" بتاريخ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2006، وحفل التوقيع الأخير كان لكتابه "أثر الفراشة" في 23 شباط (فبراير) 2008.
في بداية 2008، بدأ درويش بتوزيع نحو ألف كتاب من مكتبته الضخمة على مكتبات شعبية في جبل النظيف ومخيم البقعة، وكان يرغب في التخفيف من مكتبته التي أخذت تزاحم أثاث بيته، وليقرأها الناس.
كان له دور مميز في رئاسة اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، ساهم في عقد المؤتمر التوحيدي في الجزائر الذي أعاد اللحمة للكتاب والصحافيين بعد فترة من الانقسام. وشغل رئيس مركز الأبحاث الفلسطيني، وعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. أسس مجلة الكرمل وكان رئيس تحريرها. صدرت الكرمل في بيروت وانتقلت الى قبرص ورام الله وكانت توزع في الدول العربية.
"لم يجامل درويش يوما ولم يتخل عن ثوابته ولم يرهب أحدا لا كبيرا ولا صغيرا. وكثيرا ما كنا نضطر إلى الذهاب إلى مكان الأمسية قبل نصف ساعة أو أكثر ليطمئن. وكان دائما قلقا قبل كل أمسية. يرتب قصائده بدقة أيها يقرأ أولا وثانيا وأخيرا. ويسأل أيهما أجمل للبداية هذه أم هذه؟ تبدأ معركة محمود مع محمود إذا جاز التعبير فتكثر خلوته إلى نفسه. يوقف السفر، ويقلل كثيرا من استقبال الأصدقاء، ويتحول إلى حرفي (حداد أو نجار ويبدأ الشغل على قصائد الدرج) من موقع الناقد يحذف ويزيد، وعلى نار هادئة وبتأن لم أر مثله، وعندما يتناول قلم الحبر السائل يبدأ بكتابة المخطوطة قصيدة بعد قصيدة ثم يأتي دور التبويب. وعندما يصدر الديوان يبدأ السؤال الكبير: هل أستطيع أن أكتب شعرا أجمل من هذا؟
يجمع أصدقاء ويعتبرهم جمهورا مصغرا له يقرأ لهم كل جديد، ويطلب رأيهم. طالبه البعض أن يشطب مقدمة "في حضرة الغياب" لكنه رفض. أدمن محمود التفوق على نفسه، فهو يريد فنا متطورا يخاطب الأغوار العميقة في النفوس، ويبقى أثرها في الوجدان، وكان دائما حريصا على أن يجمع بين هذا الفن المتطور والانتشار الجماهيري الواسع، ويصر على أن يقرأ للحشود بعضا من أصعب قصائده، ولا يستجيب للطلبات. وفي الوقت عينه كان يستمع إلى رأي أصدقائه حتى إن صديقا طلب منه شطب أكثر من عشر صفحات واستجاب له. كان محمود يرغب في الحياة لسنوات قليلة مقبلة لينجز عملا كبيرا يراوده. الموت كان حاضرا بقوة، وأصبح هما يوميا وعاديا وأصبح محمود يسابق الزمن، ويسعى كثيرا ويعمل أكثر. محمود الذي لم يكن يرغب في عمل واحد ونشاط واحد في العام قدم هذه السنة أمسيات شعرية في فرنسا وإيطاليا وكوريا وفي رام الله وحيفا وفي القاهرة وتونس وعمان، وحصد الكثير من الجوائز منها جائزة "ملك الشعر" من مقدونيا، وهي عبارة عن تاج ذهبي، وجائزة الشعر العربي من مصر، وجائزة من تونس، وتبرع بالقيمة المالية بالجائزتين الأخيرتين لصالح صندوق الطالب الفلسطيني .
ومحمود لم ينس يوما أنه فلسطيني ولاجئ، ومن هنا كانت أهمية المكان في قصائده للدفاع عن الذات والثقافة وعن الذاكرة الفلسطينية، وعن الحق والحرية، ولهذا كان يعتبر معركته مع الاحتلال والظلم والاستعباد والقهر والظلام، وأن سلاحه في هذه المعركة هو الشعر.
غادر محمود درويش عمان وهو غير متأكد من رجوعه سالما إليها، ولهذا أجرى نوعا من تبرئة الذمة المبكرة، فقد أعطى العاملة الفلبينية حسابها المالي مقدما، ونقد حارس العمارة المصري أيضا حسابه، وقال لهما إنه ربما لن يعود. كان يوم الأحد 27 تموز (يوليو) 2008 هو اليوم الذي سبق سفره الأخير إلى أميركا. سافر محمود من عمان برفقة صديقه أكرم هنية إلى أميركا صباح الاثنين 28 تموز (يوليو). أما صديقه علي حليلة فقد كان سبقه إلى هيوستن ليستقبله هناك ويرتب له أمر العملية الجراحية. لم يكتب وصية، ولم يقل الكثير في لحظاته الأخيرة.



 
 توقيع : شايان

‏مَليحَةٌ لا يَفيها حَرف ، ولو قلتُ
قصيدةً فيها بعد الألف ...!


رد مع اقتباس